تعريفات ترمب وتراجع الهيمنة الأمريكية- سياسة العزلة تهدد مكانة أمريكا العالمية.

المؤلف: طلال صالح بنان09.27.2025
تعريفات ترمب وتراجع الهيمنة الأمريكية- سياسة العزلة تهدد مكانة أمريكا العالمية.

في خطوة مفاجئة ومؤثرة، أعلن الرئيس الأمريكي، في يوم الأربعاء المنصرم، عن فرض رسوم جمركية جديدة على السلع والمنتجات المستوردة إلى الولايات المتحدة من حوالي 185 دولة حول العالم، بنسب تتراوح بين 10% و49%. يهدف هذا الإجراء، كما صرح الرئيس، إلى تقليل العجز التجاري الأمريكي المتراكم مع هذه الدول. بيد أن التداعيات السلبية لهذه التعريفات الجمركية لم تتأخر في الظهور، حيث شهدت أسواق الأسهم العالمية، بما في ذلك البورصات الأمريكية نفسها، انخفاضًا حادًا وملموسًا، مما أدى إلى خسارة تقدر بنحو 2 تريليون دولار في اليوم الأول فقط من تطبيق هذه السياسة الحمائية الجديدة. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما هي الانعكاسات السياسية والاستراتيجية والأمنية لهذا القرار غير المسبوق في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية؟ وما هو تأثيره السلبي المحتمل على مكانة ودور الولايات المتحدة المهيمنة والمتفردة، باعتبارها القوة الأعظم والأوحد في النظام الدولي الراهن؟ من الناحية الاستراتيجية، تتبوأ الولايات المتحدة مكانة الدولة الأعظم والوحيدة في نظام دولي أحادي القطبية، وهو وضع ترسخ منذ النصف الثاني من القرن الماضي ولا يزال قائمًا حتى اليوم، بغض النظر عما يشاع عن نظام القطبية الثنائية الذي ساد خلال فترة الحرب الباردة (1945-1991). وفي واقع الأمر، يمكن القول بأن نظام الأمم المتحدة كان ولا يزال نظامًا دوليًا أمريكيًا بامتياز. تجدر الإشارة إلى أن الصراع خلال فترة الحرب الباردة كان صراعًا أيديولوجيًا في جوهرة، ولم يكن صراعًا استراتيجيًا بالمعنى المطلق. طوال ما يقرب من ثمانية عقود، حافظت الولايات المتحدة على تفوقها كقوة عظمى وحيدة ممسكة بزمام الأمور في نظام الأمم المتحدة، وذلك على المستويات الاستراتيجية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والثقافية والحضارية. ولم يتمكن الاتحاد السوفيتي، في أي مرحلة من المراحل، من منافسة المكانة الرفيعة التي تتمتع بها الولايات المتحدة كقوة مهيمنة وحقيقية على الصعيد الدولي. لطالما عانت الولايات المتحدة تاريخيًا من مشكلة تتمثل في ميلها نحو العزلة، وهو الميل الذي كان يطغى على انجذابها نحو المشاركة الفعالة في السياسة الدولية. وحتى في أوج فترة بنائها لنظام الأمم المتحدة، كانت نزعة العزلة تغلب على رؤيتها لمصالحها الاستراتيجية والقومية. إلا أن واشنطن استخلصت دروسًا قيمة من تجربتها المريرة في نظام عصبة الأمم (1919-1939)، الذي تخلت عنه ولم تنضم إليه، لتعود مجددًا إلى عزلتها الأممية، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية. عندها أدركت واشنطن، من منظور استراتيجي، أن أمنها القومي، الممتد بين ضفتي المحيطين الأطلسي والهادئ، لا يمكن تصوره بمعزل عن الانخراط القوي والحازم في السياسة الدولية، وذلك من خلال إنشاء منطقة عازلة في العالم القديم، تعزز من متطلبات أمنها القومي، بوجود حلفاء أقوياء لها في أوروبا الغربية، وغرب المحيط الهادئ، مثل اليابان وتايوان وأستراليا، وحتى في أدغال الهند الصينية، مرورًا بمنطقة الشرق الأوسط الحيوية. بعبارة أخرى، أدركت الولايات المتحدة، للمرة الأولى في تاريخها، أن لمكانة الهيمنة الكونية ثمنًا باهظًا لا بد من دفعه كاملًا، حتى تتمكن من التمتع بامتيازاتها وضمان بقائها في هذا الموقع الدولي الكوني الرفيع. وعقب انتهاء الحرب الكونية الثانية، أنفقت واشنطن ببذخ وسخاء على مشروع مارشال الطموح لإعادة إعمار حلفائها في الشرق والغرب، وأدركت أن ذلك لن يتأتى لها إلا بالخروج من قوقعة عزلتها، وذلك بتوفر عاملين رئيسيين: الأول، بناء صروح اقتصادية عملاقة في كنف منطقتها العازلة في أوروبا الغربية واليابان. والثاني، الاستعداد الكامل لدفع تكلفة الدفاع عن حياض مجالها الحيوي في العالم القديم، من خلال نشر مظلة نووية محكمة تتحمل وحدها تكلفة بنائها وصيانتها وضمان فاعلية ردعها الاستراتيجي في جميع الأوقات. والآن، ننتقل إلى مبدأ الرئيس ترامب الذي يرفع شعاري "أمريكا أولاً" و"لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". هذان الشعاران ينبئان بحقبة جديدة من العزلة، تبتعد بالولايات المتحدة عن الوجهين المتلازمين لعملة الهيمنة الكونية، وهما الاستعداد لدفع التكلفة مقابل الحصول على الامتيازات. هذا الوضع ينذر ببداية النهاية لحقبة الهيمنة الكونية لواشنطن. وإذا ما تزامن ذلك مع التخلي عن قيم الممارسة الديمقراطية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في الداخل، نتيجة للسياسة الحمائية الجديدة، من تضخم وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض معدلات النمو، وربما الركود، فإن العواقب ستكون وخيمة. ومن الخطأ الفادح أن تتصور واشنطن أن سياستها الحمائية الجديدة لن تقابل بإجراءات مماثلة من الآخرين. فمثلاً، أعلنت الصين على الفور عن تعريفة جمركية جديدة تصل إلى 34% إضافية على الواردات الأمريكية. المشكلة الثانية والخطيرة في عزلة ترامب تكمن في أن الرئيس ترامب يرغب في فرض هيمنته على العالم بالترهيب (السلبي)، عن بعد، دون أن يجازف بحياة جندي أمريكي واحد! هذه ليست من "شيم" الهيمنة الكونية، وليست من "طبائع" الزعامة الكونية. فبريطانيا العظمى، في أوج هيمنتها الكونية (1815-1914)، كانت على استعداد دائم للحفاظ على مكانتها الكونية من خلال إرسال جنودها وأساطيلها إلى أقاصي الأرض، كما حدث في حرب البوير في جنوب أفريقيا (1899-1902). بينما يسعى الرئيس ترامب إلى تقليص تواجد قواته وقواعد بلاده العسكرية وبرامج المساعدات الدولية، بحجة توفير النفقات، كما يزعم. باختصار شديد، يريد الرئيس ترامب أن يفرض هيمنة كونية تقوم على مبدأ العزلة الجغرافية، دون أن يدفع دولارًا واحدًا، ولا أن يضحي بجندي واحد، وفي الوقت نفسه، ينتظر أن يجني كافة امتيازات الهيمنة الكونية. إن الهيمنة الكونية لا تتحقق إلا بجناحين متلازمين: دفع التكلفة، مقابل التمتع بالامتيازات. أما وضع الهيمنة الكونية في عهد الرئيس ترامب، فإنه يستند إلى قيم "الفتوة" والغطرسة، وليس إلى عقلانية الدولة (العظمى) التي تسعى جاهدة للحفاظ على مكانة الهيمنة القومية والبقاء في قمة الهرم. والمعضلة الاستراتيجية الأخرى هنا هي أن الرئيس ترامب، بينما يتبنى استراتيجية العزلة، يتطلع في الوقت نفسه إلى توسع نفوذ الولايات المتحدة، حتى على حساب مصالح وأمن جيرانها وحلفائها! والأدهى من ذلك، هو اقترابه المريب من أعدائه الكونيين التقليديين (روسيا)، من خلال المساومة على مصالح وأمن حلفائه وأصدقاء بلاده التاريخيين (أوروبا والشرقين الأوسط والأقصى وغرب المحيط الهادئ). في نهاية المطاف، فإن كل ما سبق يصب في غير مصلحة الولايات المتحدة، ويؤدي إلى إضعافها اقتصاديًا وسياسيًا على الصعيد الداخلي، ويضر بأمنها القومي على الصعيد الاستراتيجي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة